قصتـي بـعد الممـات
منذ أسبوع وأنا على فراشي أتألم من وجع المرض الذي قدر الله تعالى أن يصيبني به ، واليوم لقد تضاعفت علي الآلام , أرقد وأستيقظ , وعندما استيقظت رأيت جميع أفراد عائلتي واقفين حولي وفوق رأسي , ينظرون إلي نظرة مودع لا لقاء بعده , كانت أمي تبكي كثيراً , وأبي كان حزيناً جداً يُغالب دمعه ليمنعه , كان أبي يكرر علي السؤال: " هل تريدين شيئاً ياابنتي نور الهدى؟ " وكنت أجيبه : " دعواتك يا أبتي"!
تذكرت أن الطبيب أخبرني قبل ثلاثة أيام بأن مرضي لن يمهلني طويلاً , حالتي قد استعصت على الدواء , لذا علي أن أعد العدة للرحيل والحساب ! كنت , أواصل التسبيح والتكبيروالتهليل والاستغفار , فجأة اشتد علي الوجع , بدأت بالأنين والعرق يتصبب مني بشدة , عرفت حينها أن سكرة الموت قد دنت { وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقّ } .
تذكرت فضل من كان آخر كلامه لا إله إلا الله , بدأت أجمع قواي لأنطق بتلك الكلمة المباركة ؛ كلمة التوحيد التي عشت لأجلها وسوف أموت عليها بإذن الله , بدأت أحاول وأغالب الآلام : " لا، لا، لا إله إلا " كان العرق يتصبب من على وجهي وفمي , وعيناي تحولقان ، أحسست كأن أحداً يعصر رقبتي , لقد ازداد الألم وضعفت الأنفاس , لكن يجب أن أنطق بتلك الكلمة المباركة قبل أن أموت , إنها فرصتي التي لن تتكرر!
كان بجواري رجل يلقني شهادة التوحيد , نعم هذا صوت والدي الحبيب : " ابنتي نور الهدى قولي : " لا إله إلا الله " حاولت مرة أخرى , وكررت المحاولة إلى أن أعانني الله على النطق بها : لا إله إلا الله , لا إله إلا الله , الحمد لله لساني ينطق بالتوحيد , لا إله إلا الله بها نحيا وعليها نموت وبها نلقى الله , صرت أكررها مراراً وتكراراً , ثم فتحت عيناي ونظرت حولي , نظرت إلى أهلي ونظرت إلى غرفتي , نظرت إلى خارج النافذة , نظرت إلى الدنيا , وداعاً يا دنيا وداعاً!
سمعت صوتاً من أسفل مني، يقول لي : " أما والله لقد كنتِ من أحب الذين يمشون على ظهري ، فأنت الآن أحب إلي في بطني " ثم جاء إلي رجل حسن الهيئة، وقال لي : " يا نور الهدى أبشري برضى الله عليكِ ، يا أيتها النفس الطيبة أخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان ".
عرفت أنه ملك الموت يريد أن يقبض روحي , لم أكنخائفة منه , لأني كنت أعلم أنه صديق للمؤمنين ورفيق بهم , ثم هو عبد لله مأمور , لايستطيع أن يفعل شيئاً إلا بإذن ومشيئة حبيبي الله ! قبل أن تخرج الروح , قاسيت سكرات الموت المؤلمة والقاسية , سمعت صوت أمي تناديني بصوت حزين , إني أسمعها جيداً لكن لا أستطيع أن أرد عليها , فتحت عيناي ونظرت إلى أبي وأمي نظرة مودع , أريد أن أبشرهم بأن الله راضٍ عني , وماذا قال لي ملك الموت , لكن لم أستطع أن أنطق بشيء , شفتاي لم تعد تقوى على الحركة , تسارعت دقات قلبي إلى أن توقف , وبلغت الروح الحلقوم .
ثم خرجت راجعة آيبة مطمئنة إلى خالقها : { يَا أَيَّتُهَاالنَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي } أنا الآن في عداد الأموات ، لاأرى لا أتكلم ولا أتنفس جثة بلا روح , همي القبر ؛ أخذت أفكر كيف سأدفن في التراب ،أفكر بوحشة القبر بظلمته بضمته , بالدود الذي يأكل الأجساد , بسؤال الملكين , اللهم ارحمني .
القبر أبكى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، وأبكى أصحابه الكرام رضي الله عنهم أجمعين , وهم هم , وأنا من أنا ؟! تذكرت قول الرسول صلى الله عليه وسلم : " القبر أول منازل الآخرة ، فإن ينج منه فما بعده أيسر منه ، وإن لم ينج منه فما بعده أشد منه "وتذكرت كذلك قوله صلى الله عليه وسلم : " ما رأيت منظراً إلا والقبر أفظع منه " .
ولكني كنت مطمئنة ، لأن ملك الموت بشرني بأن الله يحبني وهو راضٍ عني , فلماذا الخوف ؟! يحملني الناس على خشبات إلى المقبرة , إلى قبري المظلم , اللهم اجعله روضة من رياض الجنة , وأنت وحدك القادر على ذلك .
وأنا في الطريق إلى المقبرة تذكرت أني في حياتي الدنيا كنت قد قرأت حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر فيه عن العبد الصالح أو الأمة الصالحة في القبر , عندما تذكرت هذا الحديث شعرت بسعادة لا توصف , بدأت أصرخ وأقول لمن يحمل نعشي : " قدموني قدموني , قدموني قدموني " ، لكن لم يسمعني أحد منهم , وصلوا إلى المقبرة ،وأنزلوا نعشي عن أكتافهم .
أنا وحيدة الآن في قبري , ليس معي إلا عملي , أسمع قرع نعال الناس وهم ذاهبون , آه يا أهلي ستتركوني وحدي الآن , مللتم الانتظارقليلاً على قبري , أما علمتم أني الآن أُسأل , هلاّ دعوتم الله لي؟! يا لظلمةالمكان وضيقه , تذكرت في الدنيا الفانية غرفتي الواسعة , وتذكرت ألوانها المتناسقة , وأنا الآن في هذا القبر الضيق المظلم المخيف!
شعرت بالخوف من ظلمة المكان ووحشته , لكن ليس كثيراً لأني كنت متأكدة بأن الله راضٍ عني , وهو يحبني وأنا أحبه , ولن ينساني وسوف يثبتني على الإيمان والقول الثابت :{ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ }.
فجأة جاء ملكان أسودان أزرقان , أنا أعرفهما , كان والدي يكلمني عنهما في الحياة الدنيا كثيراً , إنهما المُنكِرُ والنَّكير , شكلهما مخيف، لكنهمالم يخفنني؛ لأني مؤمنة بالله , وهما عبدان مأموران لا يستطيعان أن يفعلا بي شيئاًإلا بإذن الله .
أقعداني الملكان وسألاني : " من ربكِ ؟ " أنا ( بكل ثقةوثبات ) : " ربي الله " المُنكر والنَّكير : " ما دينك ؟ " أنا : " ديني الإسلام " المُنكِر والنكير : " ما هذا الرجل الذي بعث فيكم ؟ " أنا : " هو رسول الله " ثم سمعت صوتاً من السماء ينادي : " قد صدقت أَمتي فافرشوا لها من الجنة وافتحوا لهاباباً إلى الجنة " , فأتاني من روحها وطيبها وفسح لي في قبري مد بصري !
عندما سمعت هذا النداء من السماء ، ورأيت الذي رأيت , فرحت جداً وشعرت بسعادة لا توصف , لقد فزت , فزت بالجنة , ياله من فوز عظيم ! الحمد لله , لقد عبدت الله وحده , وجاهدت طوال حياتي لأسمع هذه الكلمات الجميلة , لأفوز برضوان الله وجنانه , هذه كانت أمنيتي في الحياة الدنيا والله تعالى قد حققها لي وأعطاني ماأريد .
رأيت من جمال الجنة ونعيمها وأنهارها ما لم أره في حياتي من قبل، ولم أسمع به، ولم يكن ليخطر على بالي , رأيت غرس الأشجار آثار تسبيحي , رأيت أنهراً في الجنة من لبن وخمر وعسل , رأيت نعيماً وملكاً كبيراً , رب أقم الساعة , رب أقم الساعة : { وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً } .
المُنكِر والنكير : " نامي يا نور الهدى " أنا والبسمة على وجهي وعلامات اللهفة من شدة الفرح :" وكيف أنام , دعوني أرجع إلى أهلي فأخبرهم " المُنكِر والنَّكير : " نامي كنومة العروس ، التي لا يوقظها إلا أحب أهلها إليها "!
وأنا في مقامي البرزخي هذا تذكرت بعض أحوالي التي كنت عليها في الحياةالدنيا , تذكرت صلاتي وصومي وتلاوتي لكتاب الله , تذكرت بُعدي وهجري لقرينات السوء , تذكرت التزامي بالحجاب الذي أمرني الله به , تذكرت أذى بعض الناس لي وهم يصفونني بالمتشددة والمتزمتة , وصبري عليهم , وما ذلك إلا لأني من أهل الحجاب والاستقامة , نِعم التشدد الذي كنت عليه إذا كانت نتيجته هذا الذي أنا فيه من النعيم والرضوان , كم كانت مصيبتي عظيمة لو أني أطعت قرينات السوء في الابتعاد عن ديني وحجابي ،وعبادتي لله تعالى وحده , اللهم لك الحمد أن هديتني وثبتني على صراطك المستقيم .
إليكم أيها الأحياء أبعث هذه الرسالة من قبري :
هل تودون أن تفوزوا كما فزت ؟ إذا كان الجواب نعم فعليكم أن تصلحوا حالكم عاجلاً مع الله , يجب عليكم أن تجاهدوا الشيطان قدر الاستطاعة , وأن تتقوا الله ما استطعتم , لا تغرنكمالحياة الدنيا , ازهدوا بالدنيا , عليكم بعبادة الله تعالى وحده , والكفر بالطواغيت , حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسَبوا !
إليك يا أيها الغافل والغافلة : إلى متى هذه الغفلة والتواني , والتسويف , وترك العمل , راقبوا الله في الخلوات ولا يغرنكم طول الأمل! وإليك يا أيها اللاهي بشهوات الدنيا المتسمن :
وإليك يا أمي ويا أبي : لا تنسوا ابنتكم التي كانت تحبكم من الدعاء , فدعاؤكم يصلني , وإن سألتم عني فإني مسرورة جداً , لا تحزنوا علي , فإني أتنعم من نعيم الجنة، أطلب ما أشاء لايُرد لي طلب , فقد وجدت ما وعدني ربي حقاً , وإلى أن تلحقوا بي , أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه
وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم